فصل: تفسير الآيات رقم (69- 74)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 74‏]‏

‏{‏وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ‏(‏69‏)‏ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ‏(‏70‏)‏ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏71‏)‏ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏72‏)‏ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏73‏)‏ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏74‏)‏‏}‏

الطائفة من أهل الكتاب هم‏:‏ يهود بني النضير، وقريظة، وبني قينقاع حين دعوا جماعة من المسلمين إلى دينهم، وسيأتي‏.‏ وقيل‏:‏ هم جميع أهل الكتاب، فتكون «من» لبيان الجنس‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ‏}‏ جملة حالية للدلالة على ثبوت قدم المؤمنين في الإيمان، فلا يعود وبال من أراد فتنتهم إلا عليه‏.‏ والمراد بآيات الله‏:‏ ما في كتبهم من دلائل نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ‏}‏ ما في كتبكم من ذلك، أو تشهدون بمثلها من آيات الأنبياء الذين تقرّون بنبوّتهم، أو المراد‏:‏ كتم كل الآيات عناداً، وأنتم تعلمون أنها حق‏.‏ ولبس الحق بالباطل‏:‏ خلطه بما يتعمدونه من التحريف ‏{‏وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ جملة حالية‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَقَالَت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب‏}‏ هم رؤساؤهم، وأشرافهم، قالوا للسفلة من قومهم هذه المقالة‏.‏ ووجه النهار‏:‏ أوّله، وسمي وجهاً؛ لأنه أحسنه قال‏:‏

وتُضِئ في وَجْهِ النَّهار مُنِيرةً *** كجُمَانَة البحرى سُلَّ نظامُها

وهو‏:‏ منصوب على الظرف، أمروهم بذلك لإدخال الشك على المؤمنين، لكونهم يعتقدون أن أهل الكتاب لديهم علم، فإذا كفروا بعد الإيمان وقع الريب لغيرهم، واعتراه الشك، وهم لا يعلمون أن الله قد ثبت قلوب المؤمنين، ومكن أقدامهم، فلا تزلزلهم أراجيف أعداء الله، ولا تحركهم ريح المعاندين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ‏}‏ هذا من كلام اليهود بعضهم لبعض، أي‏:‏ قال ذلك الرؤساء للسلفة لا تصدّقوا تصديقاً صحيحاً إلا لمن تبع دينكم من أهل الملة التي أنتم عليها، وأما غيرهم ممن قد أسلم، فأظهروا لهم ذلك خداعاً ‏{‏وَجْهَ النهار واكفروا ءاخِرَهُ‏}‏ ليفتتنوا، ويكون قوله‏:‏ ‏{‏أَن يؤتى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ‏}‏ على هذا متعلقاً بمحذوف، أي‏:‏ فعلتم ذلك؛ لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم‏:‏ يعني أن ما بكم من الحسد، والبغي أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من فضل العلم، والكتاب دعاكم إلى أن قلتم ما قلتم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ يُحَاجُّوكُمْ‏}‏ معطوف على ‏{‏أن يؤتى‏}‏، أي‏:‏ لا تؤمنوا إيماناً صحيحاً، وتقرّوا بما في صدوركم إقراراً صادقاً لغير من تبع دينكم، فعلتم ذلك، ودبرتموه أن المسلمين يحاجوكم يوم القيامة عند الله بالحق‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الهدى هُدَى الله‏}‏ جملة اعتراضية‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ المعنى‏:‏ ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، ولا تصدقوا أن يحاجوكم، فذهب إلى أنه معطوف‏.‏ وقيل‏:‏ المراد‏:‏ لا تؤمنوا وجه النهار، وتكفروا آخره إلا لمن تبع دينكم، أي‏:‏ لمن دخل في الإسلام، وكان من أهل دينكم قبل إسلامه؛ لأن إسلام من كان منهم هو‏:‏ الذي قتلهم غيظاً وأماتهم حسرة، وأسفاً، ويكون قوله‏:‏ ‏{‏أَن يؤتى‏}‏ على هذا متعلقاً بمحذوف كالأوّل‏.‏

وقيل‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{‏أَن يؤتى‏}‏ متعلق بقوله‏:‏ ‏{‏لاَ تُؤْمِنُواْ‏}‏ أي‏:‏ لا تظهروا إيمانكم ب ‏{‏أَن يؤتى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ‏}‏ أي‏:‏ أسرّوا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم، ولا تفشوه إلا لأتباع دينكم‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، بالمدّ على الاستفهام تأكيداً للإنكار الذي قالوه أنه لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، فتكون على هذا ‏"‏ أن ‏"‏، وما بعدها في محل رفع على الابتداء، والخبر محذوف تقديره تصدّقون بذلك، ويجوز أن تكون في محل نصب على إضمار فعل تقديره تقرون أن يؤتى، وقد قرأ‏:‏ «آن يؤتى» بالمدّ ابن كثير، وابن محيصن، وحميد‏.‏ وقال الخليل‏:‏ ‏"‏ أن ‏"‏ في موضع خفض، والخافض محذوف‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ المعنى‏:‏ ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم كراهية أن يؤتى؛ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ لا تخبروا بما في كتابكم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم إلا من تبع دينكم، لئلا يكون ذلك سبباً لإيمان غيرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال الفراء‏:‏ يجوز أن يكون قد انقطع كلام اليهود عند قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ‏}‏ ثم قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله‏}‏ أي‏:‏ إن البيان الحق بيان الله بين أن لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم على تقدير ‏"‏ لا ‏"‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُبَيّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 176‏]‏ أي‏:‏ لئلا تضلوا،

و«أو» في قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ يُحَاجُّوكُمْ‏}‏ بمعنى حتى، وكذلك قال الكسائي، وهي عند الأخفش عاطفة، كما تقدّم‏.‏ وقيل‏:‏ إن هدى الله بدل من الهدى، وأن يؤتى خبر إن على معنى قل إن هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن هذه الآية أعظم آي‏:‏ هذه السورة إشكالاً، وذلك صحيح‏.‏ وقرأ الحسن‏:‏ ‏"‏ يؤتى ‏"‏ بكسر التاء الفوقية‏.‏ وقرأ سعيد بن جبير ‏"‏ إن يؤتى ‏"‏ بكسر الهمزة على أنها النافية‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء‏}‏ قيل‏:‏ هي النبوّة، وقيل‏:‏ أعم منها، وهو ردّ عليهم ودفع لما قالوه، ودبروه‏.‏

وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن سفيان قال‏:‏ كل شيء في آل عمران من ذكر أهل الكتاب، فهو في النصارى، ويدفع هذا أن كثيراً من خطابات أهل الكتاب المذكورة في هذه السورة لا يصحّ حملها على النصارى ألبتة، ومن ذلك هذه الآيات التي نحن بصدد تفسيرها، فإن الطائفة التي ودّت إضلال المسلمين، وكذلك الطائفة القائلة‏:‏ ‏{‏آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار‏}‏ هي‏:‏ من اليهود خاصة‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏يأَهْلَ الكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ بأيات الله وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ‏}‏ قال‏:‏ تشهدون أن نعت نبيّ الله محمد في كتابكم، ثم تكفرون به، وتنكرونه، ولا تؤمنون به، وأنتم تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة، والإنجيل النبيّ الأمّي‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الربيع مثله‏.‏ وأخرجا أيضاً، عن السدي نحوه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن مقاتل نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن جريج‏:‏ ‏{‏وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ‏}‏ على أن الدين عند الله الإسلام ليس لله دين غيره‏.‏ وأخرجا عن الربيع في قوله‏:‏ ‏{‏لِمَ تَلْبِسُونَ الحق بالباطل‏}‏ يقول‏:‏ لم تخلطون اليهودية، والنصرانية بالإسلام، وقد علمتم أن دين الله الذي لا يقبل من أحد غيره الإسلام‏:‏ ‏{‏وَتَكْتُمُونَ الحق‏}‏ يقول‏:‏ تكتمون شأن محمد، وأنتم تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة، والإنجيل‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة مثله‏.‏

وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال‏:‏ قال عبد الله بن الصيف وعدّي بن زيد، والحارث بن عوف بعضهم لبعض‏:‏ تعالوا نؤمن بما أنزل على محمد، وأصحابه غدوة، ونكفر به عشية حتى نلبس عليهم دينهم لعلهم يصنعون، كما نصنع، فيرجعون عن دينهم، فأنزل الله فيهم‏:‏ ‏{‏ياأهل الكتاب لِمَ تَلْبِسُونَ الحق بالباطل‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏والله واسع عَلِيمٌ‏}‏ وقد روي نحو هذا عن جماعة من السلف‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والضياء في المختارة من طريق أبي ظبيان، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَقَالَت طَّائِفَةٌ‏}‏ الآية، قال‏:‏ كانوا يكونون معهم أول النهار، ويجالسونهم، ويكلمونهم، فإذا أمسوا، وحضرت الصلاة كفروا به، وتركوه‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ‏}‏ قال‏:‏ هذا قول بعضهم لبعض‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن الربيع مثله‏.‏ وأخرج أيضاً عن السدي نحوه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد‏:‏ ‏{‏أَن يؤتى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ‏}‏ حسداً من يهود أن تكون النبوة في غيرهم، وإرادة أن يتابعوا على دينهم‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن أبي مالك، وسعيد بن جبير‏:‏ ‏{‏أَن يؤتى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ‏}‏ قال أمة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السدي؛ قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏إِنَّ الهدى هُدَى الله أَن يؤتى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ‏}‏ يا أمة محمد‏:‏ ‏{‏أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ‏}‏ يقول اليهود‏:‏ فعل الله بنا كذا، وكذا من الكرامة حتى أنزل علينا المنّ، والسلوى، فإن الذي أعطيتكم أفضل، فقولوا ‏{‏قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء‏}‏‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله أَن يؤتى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ‏}‏ يقول لما أنزل الله كتاباً مثل كتابكم، وبعث نبياً كنبيكم حسدتموه على ذلك ‏{‏قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء‏}‏‏.‏

وأخرج ابن جرير، عن الربيع مثله‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن جريج‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله أَن يؤتى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ‏}‏ يقول‏:‏ هذا الأمر الذي أنعم الله عليه ‏{‏أَن يؤتى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ‏}‏ قال‏:‏ قال بعضهم لبعض لا تخبروهم بما بين الله لكم في كتابه ل ‏{‏يُحَاجُّوكُم‏}‏ قال‏:‏ ليخاصموكم به ‏{‏عِندَ رَبّكُمْ‏}‏ فتكون لهم حجة عليكم‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله‏}‏ قال‏:‏ الإسلام ‏{‏يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء‏}‏ قال‏:‏ القرآن، والإسلام‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد ‏{‏يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء‏}‏ قال‏:‏ النبوّة‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال‏:‏ رحمته الإسلام يختص بها من يشاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 77‏]‏

‏{‏وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏75‏)‏ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ‏(‏76‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏77‏)‏‏}‏

هذا شروع في بيان خيانة اليهود في المال بعد بيان خيانتهم في الدين‏.‏ والجار والمجرور في قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنْ أَهْلِ الكتاب‏}‏ في محل رفع على الابتداء على ما مرّ في قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 8‏]‏ وقد تقدم تفسير القنطار‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏تَأْمَنْهُ‏}‏ هذه قراءة الجمهور‏.‏ وقرأ ابن وثاب، والأشهب العقيلي‏:‏ «تيمنه» بكسر التاء الفوقية على لغة بكر، وتميم، ومثله قراءة من قرأ‏:‏ ‏{‏نستعين‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏ بكسر النون‏.‏ وقرأ نافع، والكسائي‏:‏ ‏{‏يُؤَدّهِ‏}‏ بكسر الهاء في الدرج‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ واتفق أبو عمرو، والأعمش، وحمزة، وعاصم في رواية أبي بكر على إسكان الهاء‏.‏ قال النحاس‏:‏ إسكان الهاء لا يجوز إلا في الشعر عند بعض النحويين، وبعضهم لا يجيزه ألبتة، ويرى أنه غلط من قرأ به، ويوهم أن الجزم يقع على الهاء، وأبو عمرو أجلّ من أن يجوز عليه شيء من هذا، والصحيح عنه أنه كان يكسر الهاء‏.‏ وقال الفراء‏:‏ مذهب بعض العرب يسكنون الهاء إذا تحرك ما قبلها، فيقولون ضربته ضرباً شديداً، كما يسكنون ميم أنتم، وقمتم، وأنشد‏:‏

لما رأى أن لا دَعَهْ ولا شِبَعْ *** مال إلى أرْطاة حِقْفٍ فاضَّطجَع

وقرأ أبو المنذر سلام، والزهري‏:‏ «يؤده» بضم الهاء بغير واو‏.‏ وقرأ قتادة، وحمزة، ومجاهد‏:‏ «يؤدهو» بواو في الإدراج، ومعنى الآية‏:‏ أن أهل الكتاب فيهم الأمين الذي يؤدى أمانته، وإن كانت كثيرة، وفيهم الخائن الذي لا يؤدي أمانته، وإن كانت حقيرة، ومن كان أميناً في الكثير، فهو في القليل أمين بالأولى، ومن كان خائناً في القليل، فهو في الكثير خائن بالأولى‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا‏}‏ استثناء مفرغ، أي‏:‏ لا يؤده إليك في حال من الأحوال إلا ما دمت عليه قائماً مطالباً له مضيقاً عليه متقاضياً لردّه، والإشارة بقوله ‏{‏ذلك‏}‏ إلى ترك الأداء المدلول عليه بقوله‏:‏ ‏{‏لاَّ يُؤَدِّهِ‏}‏‏.‏ والأميون هم العرب الذين ليسوا أهل كتاب، أي‏:‏ ليس علينا في ظلمهم حرج لمخالفتهم لنا في ديننا، وادّعوا لعنهم الله أن ذلك في كتابهم، فردّ الله سبحانه عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏بلى‏}‏ أي‏:‏ بلى عليهم سبيل؛ لكذبهم واستحلالهم أموال العرب، فقوله‏:‏ ‏{‏بلى‏}‏ ‏"‏ إثبات لما نفوه من السبيل ‏"‏‏.‏ قال الزجاج‏:‏ تمّ الكلام بقوله‏:‏ ‏{‏بلى‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ واتقى‏}‏ وهذه جملة مستأنفة، أي‏:‏ من أوفى بعهده، واتّقى، فليس من الكاذبين‏.‏ أو فإن الله يحبه، والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏بِعَهْدِهِ‏}‏ راجع إلى ‏"‏ من ‏"‏، أو إلى الله تعالى، وعموم المتقين قائم مقام العائد إلى ‏"‏ مَن ‏"‏، أي‏:‏ فإن الله يحبه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله‏}‏ أي‏:‏ يستبدلون، كما تقدّم تحقيقه غير مرة‏.‏ وعهد الله هو ما عاهدوه عليه من الإيمان بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، والأيمان‏:‏ هي التي كانوا يحلفون أنهم يؤمنون به، وينصرونه، وسيأتي بيان سبب نزول الآية ‏{‏أولئك‏}‏ أي‏:‏ الموصوفون بهذه الصفة ‏{‏لاَ خلاق لَهُمْ فِى الأخرة‏}‏ أي‏:‏ لا نصيب ‏{‏وَلاَ يُكَلّمُهُمُ الله‏}‏ بشيء أصلاً، كما يفيده حذف المتعلق من التعميم، أو لا يكلمهم بما يسرهم ‏{‏وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة‏}‏ نظر رحمة، بل يسخط عليهم، ويعذبهم بذنوبهم، كما يفيده قوله‏:‏ ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏‏.‏

وقد أخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، عن عكرمة في قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنْ أَهْلِ الكتاب مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدّهِ إِلَيْكَ‏}‏ قال‏:‏ هذا من النصارى ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ‏}‏ قال‏:‏ هذا من اليهود ‏{‏إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا‏}‏ قال‏:‏ إلا ما طلبته، واتبعته‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الاميين سَبِيلٌ‏}‏ قال‏:‏ قالت اليهود‏:‏ ليس علينا فيما أصبنا من مال العرب سبيل‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن السديّ نحوه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير في قوله‏:‏ ‏{‏ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الأميين سَبِيلٌ‏}‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كذب أعداء الله، ما من شيء كان في الجاهلية إلا، وهو تحت قدميّ هاتين، إلا الأمانة، فإنها مؤدّاة إلى البرّ، والفاجر» وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن صعصعة أنه سأل ابن عباس فقال‏:‏ إنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمة الدجاجة، والشاة، قال ابن عباس‏:‏ فتقولون ماذا‏؟‏ قال‏:‏ نقول ليس علينا في ذلك من بأس، قال‏:‏ هذا، كما قال أهل الكتاب‏:‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الأميين سَبِيلٌ‏}‏ إنهم إذا أدّوا الجزية لم تحلّ لكم أموالهم إلا بطيب نفوسهم‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏بلى مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ واتقى‏}‏ يقول‏:‏ اتقى الشرك‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ الله يُحِبُّ المتقين‏}‏ يقول الذين يتقون الشرك‏.‏

وأخرج البخاري، ومسلم، وأهل السنن، وغيرهم، عن ابن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقتطع بها مال امريء مسلم لقي الله، وهو عليه غضبان»‏.‏ فقال الأشعث بن قيس‏:‏ فيّ والله كان ذلك، كان بيني، وبين رجل من اليهود أرض، فجحدني، فقدّمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ألك بينة‏؟‏» قلت‏:‏ لا، قال «لليهودي‏:‏ احلف،» فقلت‏:‏ يا رسول الله إذن يحلف، فيذهب مالي، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وأيمانهم ثَمَنًا قَلِيًلا‏}‏ إلى آخر الآية «‏.‏ وقد روى‏:‏ أن سبب نزول الآية أن رجلاً كان يحلف بالسوق‏:‏ لقد أعطى بسلعته ما لم يعط بها‏.‏ أخرجه البخاري، وغيره‏.‏ وقد روي أن سبب نزولها مخاصمة كانت بين الأشعث، وامرئ القيس، ورجل من حضرموت‏.‏ أخرجه النسائي، وغيره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

أي‏:‏ طائفة من اليهود ‏{‏يلوون‏}‏، أي‏:‏ يحرّفون، ويعدلون به عن القصد، وأصل الليّ‏:‏ الميل، يقول لوى برأسه‏:‏ إذا أماله، وقريء‏:‏ «يلووّن» بالتشديد، و«يلون» بقلب الواو همزة، ثم تخفيفها بالحذف، والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏لِتَحْسَبُوهُ‏}‏ يعود إلى ما دلّ عليه ‏{‏يَلْوُونَ‏}‏ وهو‏:‏ المحرّف الذي جاءوا به‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا هُوَ مِنَ الكتاب‏}‏ جملة حالية، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله‏}‏ وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ أنهم كاذبون مفترون‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، من طريق العوفي، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم‏}‏ قال‏:‏ هم اليهود‏.‏ كانوا يزيدون في الكتاب ما لم ينزل الله‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد قال‏:‏ يحرّفونه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏79- 80‏]‏

‏{‏مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ‏(‏79‏)‏ وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

أي‏:‏ ما كان ينبغي، ولا يستقيم لبشر أن يقول هذه المقالة، وهو متصف بتلك الصفة‏.‏ وفيه بيان من الله سبحانه لعباده أن النصارى افتروا على عيسى عليه السلام ما لم يصح عنه، ولا ينبغي أن يقوله‏.‏ والحكم‏:‏ الفهم والعلم‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏ولكن كُونُواْ‏}‏ أي‏:‏ ولكن يقول النبي كونوا ربانيين‏.‏ والرباني منسوب إلى الرب بزيادة الألف، والنون للمبالغة، كما يقال لعظيم اللحية لحياني، ولعظيم الجمة جماني، ولغليظ الرقبة رقباني، قيل‏:‏ الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، فكأنه يقتدي بالربّ سبحانه في تيسير الأمور‏.‏ وقال المبرد‏:‏ الربانيون‏:‏ أرباب العلم، واحدهم رباني، من قوله‏:‏ ربه يربه، فهو ربان‏:‏ إذا دبره، وأصلحه، والياء للنسب، فمعنى الرباني‏:‏ العالم بدين الربّ القويّ التمسك بطاعة الله‏.‏ وقيل العالم الحكيم‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏بِمَا كُنتُمْ تُعَلّمُونَ‏}‏ أي بسبب كونكم عالمين، أي‏:‏ كونوا ربانيين بهذا السبب، فإن حصول العلم للإنسان، والدراسة له يتسبب عنهما الربانية التي هي التعليم للعلم، وقوّة التمسك بطاعة الله‏.‏ وقرأ ابن عباس، وأهل الكوفة‏:‏ «بما كنتم تعلمون» بالتشديد‏.‏ وقرأ أبو عمرو، وأهل المدينة بالتخفيف، واختار القراءة الأولى أبو عبيد‏.‏ قال‏:‏ لأنها لجمع المعنيين‏.‏ قال مكي‏:‏ التشديد أبلغ؛ لأن العالم قد يكون عالماً غير معلم، فالتشديد يدل على العلم، والتعليم، والتخفيف إنما يدل على العلم فقط‏.‏ واختار القراءة الثانية أبو حاتم‏.‏ قال أبو عمرو‏:‏ وتصديقها ‏{‏تدرسون‏}‏ بالتخفيف دون التشديد‏.‏ انتهى‏.‏ والحاصل أن من قرأ بالتشديد لزمه أن يحمل الرباني على أمر زائد على العلم، والتعليم، وهو أن يكون مع ذلك مخلصاً، أو حكيماً، أو حليماً حتى تظهر السببية، ومن قرأ بالتخفيف جاز له أن يحمل الرباني على العالم الذي يعلم الناس، فيكون المعنى كونوا معلمين بسبب كونكم علماء، وبسبب كونكم تدرسون العلم‏.‏ وفي هذه الآية أعظم باعث لمن علم على أن يعمل، وإن من أعظم العمل بالعلم تعليمه، والإخلاص لله سبحانه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَابًا‏}‏ بالنصب عطفاً على ‏{‏ثم يقول‏}‏ «ولا» مزيدة لتأكيد النفي، أي‏:‏ ليس له أن يأمر بعبادة نفسه، ولا يأمر باتخاذ الملائكة، والنبيين أرباباً بل ينتهي عنه، ويجوز عطفه على أن يؤتيه، أي‏:‏ ما كان لبشر أن يأمركم بأن تتخذوا الملائكة، والنبيين أرباباً، وبالنصب قرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، وقرأ الباقون بالرفع على الاستئناف، والقطع من الكلام الأوّل، أي‏:‏ ولا يأمركم الله أن تتخذوا الملائكة، والنبيين أرباباً، ويؤيده أن في مصحف ابن مسعود، ‏"‏ ولن يأمركم ‏"‏‏.‏ والهمز في قوله‏:‏ ‏{‏أَيَأْمُرُكُم‏}‏ لإنكار ما نفي عن البشر‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ‏}‏ استدل به من قال‏:‏ إن سبب نزول الآية استئذان من استأذن النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين في أن يسجدوا له‏.‏

وقد أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الدلائل، عن ابن عباس قال‏:‏ قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود، والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام‏:‏ أتريد يا محمد أن نعبدك، كما تعبد النصارى عيسى‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ معاذ الله أن نعبد غير الله، أو نأمر بعبادة غيره ما بذلك بعثني، ولا بذلك أمرني، ‏"‏ فأنزل الله في ذلك‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِبَشَرٍ‏}‏ الآية»‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، عن الحسن قال‏:‏ بلغني أن رجلاً قال‏:‏ يا رسول الله نسلم عليك، كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ لا ولكن أكرموا نبيكم، واعرفوا الحق لأهله، فإنه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله، ‏"‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِبَشَرٍ‏}‏ الآية»‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏ربانيين‏}‏ قال‏:‏ فقهاء علماء‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عنه قال‏:‏ حكماء علماء حلماء‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عنه قال‏:‏ علماء فقهاء‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن ابن مسعود قال‏:‏ حكماء علماء‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي رزين في قوله‏:‏ ‏{‏وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ‏}‏ قال‏:‏ مذاكرة الفقه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن جريج في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة‏}‏ قال‏:‏ ولا يأمرهم النبي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏81- 82‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏81‏)‏ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

قد اختلف في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين‏}‏ فقال سعيد بن جبير، وقتادة، وطاوس، والحسن، والسديّ إنه أخذ الله ميثاق الأنبياء‏:‏ أن يصدّق بعضهم بعضاً بالإيمان، ويأمر بعضهم بعضاً بالكتاب إن بذلك، فهذا معنى النصرة له، والإيمان به، وهو ظاهر الآية، فحاصله أن الله أخذ ميثاق الأول من الأنبياء أن يؤمن بما جاء به الآخر، وينصره، وقال الكسائي‏:‏ يجوز أن يكون معنى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين‏}‏ بمعنى وإذ أخذ الله ميثاق الذين مع النبيين، ويؤيده قراءة ابن مسعود‏:‏ «وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب» وقيل‏:‏ في الكلام حذف‏.‏ والمعنى‏:‏ وإذ أخذ الله ميثاق النبيين؛ لتعلمن الناس لما جاءكم من كتاب، وحكمة، ولتأخذن على الناس أن يؤمنوا، ودلّ على هذا الحذف قوله‏:‏ ‏{‏وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِى‏}‏ و«ما» في قوله‏:‏ ‏{‏لما آتيتكم‏}‏ بمعنى الذي‏.‏ قال سيبويه‏:‏ سألت الخليل عن قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم‏}‏ فقال‏:‏ «ما» بمعنى الذي‏.‏ قال النحاس‏:‏ التقدير في قول الخليل الذي آتيتكموه، ثم حذفت الهاء لطول الاسم، واللام لام الابتداء، وبهذا قال الأخفش، وتكون ما في محل رفع على الابتداء، وخبرها من كتاب، وحكمة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ جَاءكُمْ‏}‏ وما بعده جملة معطوفة على الصلة، والعائد محذوف أي‏:‏ مصدّق به‏.‏ وقال المبرد، والزجاج، والكسائي‏:‏ «ما» شرطية دخلت عليها لام التحقيق، كما تدخل على ‏"‏ إن ‏"‏، «ولتؤمنن به» جواب القسم الذي هو أخذ الميثاق، إذ هو بمنزلة الاستحلاف، كما تقول‏:‏ أخذت ميثاقك، لتفعلنّ كذا، وهو‏:‏ سادّ مسدّ الجزاء‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ إن الجزاء قوله‏:‏ ‏{‏فَمَنْ تولى‏}‏‏.‏ وقال في الكشاف‏:‏ إن اللام في قوله‏:‏ ‏{‏لما آتيتكم‏}‏ لام التوطئة، واللام في قوله‏:‏ ‏{‏لَتُؤْمِنُنَّ‏}‏ جواب القسم، ‏"‏ وما ‏"‏ يحتمل أن تكون المتضمنة لمعنى الشرط، ‏"‏ ولتؤمنن ‏"‏ سادّ مسدّ جواب القسم، والشرط جميعاً، وأن تكون موصولة بمعنى الذي آتيتكموه لتؤمنن به‏.‏ انتهى، وقرأ حمزة‏:‏ «لما آتيتكم» بكسر اللام ‏"‏ وما ‏"‏ بمعنى الذي، وهي متعلقة بأخذ‏.‏ وقرأ أهل المدينة‏:‏ «آتيناكم» على التعظيم‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ «آتيتكم» على التوحيد، وقيل‏:‏ إن «ما» في قراءة من قرأ بكسر اللام مصدرية‏.‏ ومعناه‏:‏ لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب، والحكمة، ثم لمجيء رسول مصدّق لما معكم، واللام لام التعليل، أي‏:‏ لأجل ذلك أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتؤمنن به‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَقْرَرْتُمْ‏}‏ هو من الإقرار‏.‏ والإصر في اللغة‏:‏ الثقل، سمي العهد إصراً لما فيه من التشديد‏.‏ والمعنى‏:‏ وأخذتم على ذلك عهدي‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏قَالُواْ أَقْرَرْنَا‏}‏ جملة استئنافية، كأنه قيل‏:‏ ماذا قالوا عند ذلك‏؟‏ فقيل قالوا أقررنا، وإنما لم يذكر أحدهم الإصر اكتفاء بذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏قَالَ فاشهدوا‏}‏ أي‏:‏ قال الله سبحانه فاشهدوا، أي‏:‏ ليشهد بعضهم على بعض‏:‏ ‏{‏وَأَنَاْ مَعَكُمْ مّنَ الشاهدين‏}‏ أي‏:‏ وأنا على إقراركم، وشهادة بعضكم على بعض من الشاهدين‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَمَنْ تولى‏}‏ أي‏:‏ أعرض عما ذكر بعد ذلك الميثاق ‏{‏فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون‏}‏ أي‏:‏ الخارجون عن الطاعة‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير قال‏:‏ قلت لابن عباس‏:‏ إن أصحاب عبد الله يقرأون‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كتاب وَحِكْمَةٍ‏}‏ ونحن نقرأ ‏{‏ميثاق النبيين‏}‏، فقال ابن عباس‏:‏ إنما أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن طاوس في الآية، قال‏:‏ ‏{‏أَخَذَ الله ميثاق النبيين‏}‏ أن يصدق بعضهم بعضاً‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين‏}‏ قال‏:‏ هي خطأ من الكتاب، وهي في قراءة ابن مسعود‏:‏ «ميثاق الذين أوتوا الكتاب» وأخرج ابن جرير، عن عليّ قال‏:‏ لم يبعث الله نبياً آدم، فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد لئن بعث، وهو حيّ ليؤمنن به، ولينصرنه، ويأمره، فيأخذ العهد على قومه، ثم تلا‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السدي في الآية نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير، من طريق العوفي عنه في قوله‏:‏ ‏{‏إِصْرِى‏}‏ قال‏:‏ عهدي‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن عليّ في قوله‏:‏ ‏{‏قَالَ فاشهدوا‏}‏ يقول‏:‏ فاشهدوا على أممكم بذلك ‏{‏وَأَنَاْ مَعَكُمْ مّنَ الشاهدين‏}‏ عليكم وعليهم ‏{‏فَمَنْ تولى‏}‏ عنك يا محمد بعد هذا العهد من جميع الأمم ‏{‏فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون‏}‏ هم العاصون في الكفر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 85‏]‏

‏{‏أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ‏(‏83‏)‏ قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ‏(‏84‏)‏ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَفَغَيْرَ‏}‏ عطف على مقدّر، أي‏:‏ أتتولون، فتبغون غير دين الله، وتقديم المفعول؛ لأنه المقصود بالإنكار‏.‏ وقرأ أبو عمرو وحده ‏{‏يبغون‏}‏ بالتحتية، و«ترجعون» بالفوقية، قال‏:‏ لأن الأوّل خاص، والثاني عام، ففرّق بينهما لافتراقهما في المعنى‏.‏ وقرأ حفص بالتحتية في الموضعين‏.‏ وقرأ الباقون بالفوقية فيهما، وانتصب ‏{‏طوعاً وكرهاً‏}‏ على الحال، أي‏:‏ طائعين ومكرهين‏.‏ والطوع‏:‏ الانقياد، والاتباع بسهولة، والكره‏:‏ ما فيه مشقة، وهو من أسلم مخافة القتل، وإسلامه استسلام منه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏آمنا‏}‏ إخبار منه صلى الله عليه وسلم عن نفسه، وعن أمته ‏{‏لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ‏}‏ كما فرّقت اليهود، والنصارى، فآمنوا ببعض، وكفروا ببعض‏.‏ وقد تقدّم تفسير هذه الآية ‏{‏وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ‏}‏ أي‏:‏ منقادون مخلصون‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏دِينًا‏}‏ مفعول للفعل، أي‏:‏ يبتغ ديناً حال كونه غير الإسلام، ويجوز أن ينتصب غير الإسلام على أنه مفعول الفعل، وديناً إما تمييز، أو حال إذا أوّل بالمشتق، أو بدل من غير‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ فِى الأخرة مِنَ الخاسرين‏}‏ إما في محل نصب على الحال، أو جملة مستأنفة، أي‏:‏ من الواقعين في الخسران يوم القيامة‏.‏

وقد أخرج الطبراني بسند ضعيف، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السموات والأرض‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏ أما من في السموات فالملائكة، وأما من في الأرض، فمن ولد على الإسلام، وأما كرها، فمن أتى به من سبايا الأمم في السلاسل، والأغلال يقادون إلى الجنة، وهم كارهون ‏"‏ وأخرج الديلمي عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآية ‏"‏ الملائكة أطاعوه في السماء، والأنصار، وعبد القيس أطاعوه في الأرض ‏"‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس قال في الآية‏:‏ ‏{‏أَسْلَمَ مَن فِى السموات والأرض‏}‏ حين أخذ عليهم الميثاق‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عنه في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَهُ أَسْلَمَ‏}‏ قال‏:‏ المعرفة‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن قتادة في الآية قال‏:‏ أما المؤمن، فأسلم طائعاً، فنفعه ذلك، وقبل منه، وأما الكافر، فأسلم حين رأى بأس الله، فلم ينفعه ذلك، ولم يقبل منه ‏{‏فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمانهم لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 85‏]‏‏.‏ وأخرج الطبراني في الأوسط عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من ساء خلقه من الرقيق، والدوابّ، والصبيان، فاقرءوا في أذنه ‏{‏أَفَغَيْرَ دِينِ الله يبغون‏}‏ ‏"‏ وأخرج ابن السني في عمل اليوم، والليلة، عن يونس بن عبيد قال‏:‏ ليس رجل يكون على دابة صعبة، فيقرأ في أذنها ‏{‏أَفَغَيْرَ دِينِ الله يبغون‏}‏ الآية إلا ذلت بإذن الله عزّ وجلّ‏.‏ وأخرج أحمد، والطبراني في الأوسط عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ تجيء الأعمال يوم القيامة، فتجيء الصلاة، فتقول‏:‏ يا ربّ أنا الصلاة، فيقول‏:‏ إنك على خير، وتجيء الصدقة فتقول‏:‏ يا ربّ أنا الصدقة، فيقول إنك على خير، ويجيء الصيام، فيقول‏:‏ أنا الصيام، فيقول إنك على خير، ثم تجيء الأعمال كل ذلك يقول الله‏:‏ إنك على خير، ثم يجيء الإسلام فيقول‏:‏ يا ربّ أنت السلام، وأنا الإسلام، فيقول‏:‏ إنك على خير بك اليوم آخذ، وبك أعطي، قال الله تعالى في كتابه‏:‏ ‏{‏وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الأخرة مِنَ الخاسرين‏}‏ ‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏86- 91‏]‏

‏{‏كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏86‏)‏ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ‏(‏87‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏88‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏89‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ ‏(‏90‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏كَيْفَ يَهْدِى الله قَوْمًا‏}‏ هذا الاستفهام معناه الجحد، أي‏:‏ لا يهدي الله، ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 7‏]‏ أي‏:‏ لا عهد لهم، ومثله قول الشاعر‏:‏

كَيْفَ نَومْي عَلى الفِراش ولما *** تَشْمل الشَامَ غَارة شَعْواءُ

أي‏:‏ لا نوم لي‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ لا يهدي الله قوماً إلى الحق كفروا بعد إيمانهم، وبعدما شهدوا أن الرسول حق، وبعد ما جاءتهم البينات من كتاب الله سبحانه، ومعجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله‏:‏ ‏{‏والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين‏}‏ جملة حالية، أي‏:‏ كيف يهدي المرتدّين، والحال أنه لا يهدي من حصل منهم مجرد الظلم؛ لأنفسهم، ومنهم الباقون على الكفر، ولا ريب أن ذنب المرتدّ أشدّ من ذنب من هو باق على الكفر؛ لأن المرتدّ قد عرف الحق، ثم أعرض عناداً، وتمرّداً‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ إشارة إلى القوم المتصفين بتلك الصفات السابقة، وهو‏:‏ مبتدأ خبره الجملة التي بعده‏.‏ وقد تقدّم تفسير اللعن‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ‏}‏ معناه‏:‏ يؤخرون ويمهلون‏.‏ ثم استثنى التائبين‏:‏ فقال‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك‏}‏‏:‏ أي‏:‏ من بعد الارتداد ‏{‏وَأَصْلَحُواْ‏}‏ بالإسلام ما كان قد أفسدوه من دينهم بالردّة‏.‏ وفيه دليل على قبول توبة المرتد إذا رجع إلى الإسلام مخلصاً، ولا خلاف في ذلك فيما أحفظ‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ ازدادوا كُفْراً‏}‏‏.‏ قال قتادة، وعطاء الخراساني، والحسن‏:‏ نزلت في اليهود، والنصارى كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم بنعته، وصفته‏:‏ ‏{‏ثُمَّ ازدادوا كُفْراً‏}‏ بإقامتهم على كفرهم، وقيل‏:‏ ازدادوا كفراً بالذنوب التي اكتسبوها، ورجحه ابن جرير الطبري، وجعلها في اليهود خاصة‏.‏ وقد استشكل جماعة من المفسرين قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ‏}‏ مع كون التوبة مقبولة، كما في الآية الأولى، وكما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الذى يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 25‏]‏ وغير ذلك، فقيل‏:‏ المعنى‏:‏ لن تقبل توبتهم بعد الموت‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا قول حسن، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنّى تُبْتُ الآن‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 18‏]‏ وبه قال الحسن، وقتادة، وعطاء، ومنه الحديث‏:‏ «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر»؛ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ لمن تقبل توبتهم التي كانوا عليها قبل أن يكفروا؛ لأن الكفر أحبطها، وقيل‏:‏ لمن تقبل توبتهم إذا تابوا من كفرهم إلى كفر آخر، والأولى أن يحمل عدم قبولهم التوبة في هذه الآية على من مات كافراً غير تائب، فكأنه عبر عن الموت على الكفر بعدم قبول التوبة، وتكون الآية المذكورة بعد هذه الآية، وهي قوله‏:‏ ‏{‏إِن الذين كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ‏}‏ في حكم البيان لها‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏مّلْء الأرض ذَهَبًا‏}‏ الملء بالكسر مقداراً ما يملأ الشيء، والملء بالفتح‏:‏ مصدر ملأت الشيء، و‏{‏ذهبا‏}‏ تمييز، قاله الفراء وغيره‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ نصب على إضمار من ذهب‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏أَو عَدْلُ ذلك صِيَاماً‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏ أي‏:‏ من صيام‏.‏ وقرأ الأعمش‏:‏ «ذهب» بالرفع على أنه بدل من ملء، والواو في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوِ افتدى بِهِ‏}‏ قيل‏:‏ هي مقحمة زائدة، والمعنى‏:‏ لو افتدى به‏.‏ وقيل‏:‏ فيه حمل على الغنى كأنه قيل‏:‏ فلن يقبل من أحدهم فدية، ولو افتدى بملء الأرض ذهباً‏.‏ وقيل‏:‏ هو عطف على مقدر، أي‏:‏ لن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً لو تصدق به في الدنيا، ولو افتدى به من العذاب أي‏:‏ بمثله‏.‏

وقد أخرج النسائي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس قال‏:‏ كان رجل من الأنصار أسلم، ثم ارتد، ولحق بالمشركين، ثم ندم، فأرسل إلى قومه‏:‏ أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ هل لي من توبة‏؟‏ فنزلت‏:‏ ‏{‏كَيْفَ يَهْدِى الله قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إيمانهم‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ فأرسل إليه قومه، فأسلم‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، عن مجاهد نحوه، وقال‏:‏ هو الحارث بن سويد‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن السدي نحوه، وأخرج ابن إسحاق، وابن المنذر، عن ابن عباس، نحوه أيضاً‏.‏ وقد روى عن جماعة نحوه أيضاً‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، من طريق العوفي، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏كَيْفَ يَهْدِى الله قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إيمانهم‏}‏‏.‏ قال‏:‏ هم أهل الكتاب من اليهود عرفوا محمداً، ثم كفروا به‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن الحسن قال‏:‏ هم أهل الكتاب من اليهود، والنصارى، وذكر نحو ما تقدّم عنه‏.‏ وأخرج البزار، عن ابن عباس‏:‏ أن قوماً أسلموا، ثم ارتدوا، ثم أسلموا، ثم ارتدوا، فأرسلوا إلى قومهم يسألون لهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ بَعْدَ إيمانهم ثُمَّ ازدادوا كُفْرًا‏}‏ قال السيوطي‏:‏ هذا خطأ من البزار‏.‏

وأخرج ابن جرير، عن الحسن في الآية قال‏:‏ اليهود، والنصارى لن تقبل توبتهم عند الموت‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن قتادة في الآية قال‏:‏ هم اليهود كفروا بالإنجيل، وعيسى، ثم ازدادوا كفراً بمحمد صلى الله عليه وسلم، والقرآن‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية في الآية قال‏:‏ إنما نزلت في اليهود، والنصارى كفروا بعد إيمانهم، ثم ازدادوا كفراً بذنوب أذنبوها، ثم ذهبوا يتوبون من تلك الذنوب في كفرهم، ولو كانوا على الهدى قبلت توبتهم، ولكنهم على الضلالة‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ ازدادوا كُفْراً‏}‏ قال‏:‏ نموا على كفرهم‏.‏

وأخرج ابن جرير، عن السدي في قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ ازدادوا كُفْراً‏}‏ قال‏:‏ ماتوا وهم كفار‏:‏ ‏{‏لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ‏}‏ قال‏:‏ إذا تاب عند موته لم تقبل توبته‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية في قوله‏:‏ ‏{‏لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ‏}‏ قال‏:‏ تابوا من الذنوب، ولم يتوبوا من الأصل‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الحسن في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ‏}‏ قال‏:‏ هو كل كافر‏.‏ وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «يجاء بالكافر يوم القيامة، فيقال له‏:‏ أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت مفتدياً به، فيقول نعم، فيقال له لقد سئلت ما هو أيسر من ذلك، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن الذين كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏» الآية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏92‏]‏

‏{‏لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ‏(‏92‏)‏‏}‏

هذا كلام مستأنف خطاب للمؤمنين عقب ذكر ما لا ينفع الكفار‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏لَن تَنَالُواْ البر‏}‏ يقال‏:‏ نالني من فلان معروف ينالني، أي‏:‏ وصل إليّ، والنوال‏:‏ العطاء من قولك نولته تنويلاً أعطيته‏.‏ والبرّ‏:‏ العمل الصالح، وقال ابن مسعود، وابن عباس، وعطاء، ومجاهد، وعمرو بن ميمون، والسديّ‏:‏ هو الجنة، فمعنى الآية‏:‏ لن تنالوا العمل الصالح، أو الجنة، أي‏:‏ تصلوا إلى ذلك، وتبلغوا إليه حتى تنفقوا مما تحبون، أي‏:‏ حتى تكون نفقتكم من أموالكم التي تحبونها، و‏{‏مِنْ‏}‏ تبعيضية، ويؤيده قراءة ابن مسعود‏:‏ «حتى تنفقوا بعض ما تحبون» وقيل‏:‏ بيانية ‏{‏وَمَا‏}‏ موصولة، أو موصوفة، والمراد النفقة في سبيل الخير من صدقة، أو غيرها من الطاعات، وقيل‏:‏ المراد‏:‏ الزكاة المفروضة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مِن شَئ‏}‏ بيان لقوله‏:‏ ‏{‏مَا تُنفِقُواْ‏}‏ أي‏:‏ ما تنفقوا من أيّ شيء سواء كان طيباً، أو خبيثاً ‏{‏فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ‏}‏ و‏"‏ ما ‏"‏ شرطية جازمة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ‏}‏ تعليل لجواب الشرط واقع موقعه‏.‏

وقد أخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما، عن أنس‏:‏ «أن أبا طلحة لما نزلت هذه الآية أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ يا رسول الله إن أحبّ أموالي إليّ بيرحاء، وإنها صدقة» الحديث‏.‏ وقد روي بألفاظ‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، والبزار، عن ابن عمر قال‏:‏ حضرتني هذه الآية‏:‏ ‏{‏لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ‏}‏ فذكرت ما أعطاني الله، فلم أجد شيئاً أحبّ إلي من مرجانة جارية لي رومية، فقلت‏:‏ هي حرّة لوجه الله، فلو أني أعود في شيء جعلته لله لنكحتها، فأنكحتها نافعاً‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري أن يبتاع له جارية من سبي جلولاء، فدعا بها عمر، فقال‏:‏ إن الله يقول‏:‏ ‏{‏لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ‏}‏ فأعتقها عمر، وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم‏:‏ إنها لما نزلت الآية جاء زيد بن حارثة بفرس له يقال لها‏:‏ سبل، لم يكن له مال أحبّ إليه منها، فقال‏:‏ هي صدقة‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن مسعود في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَن تَنَالُواْ البر‏}‏ قال‏:‏ الجنة‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن عمرو بن ميمون، والسدي مثله‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن مسروق مثله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏93- 95‏]‏

‏{‏كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏93‏)‏ فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏94‏)‏ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏95‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏كُلُّ الطعام‏}‏ أي المطعوم، ولحل مصدر يستوي فيه المفرد والجمع المذكر والمؤنث وهو الحلال، و‏{‏إسرائيل‏}‏ هو يعقوب كما تقدم تحقيقه‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ أن كل المطعومات كانت حلالاً لبني يعقوب لم يحرم عليهم شيء منها إلا ما حرم إسرائيل على نفسه وسيأتي بيان ما هو الذي حرمه على نفسه، وهذا الاستثناء متصل من اسم كان‏.‏ وقوله ‏{‏مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة‏}‏ متعلق بقوله‏:‏ ‏{‏كَانَ حِلاًّ‏}‏ أي‏:‏ أن كل المطعومات كانت حلالاً ‏{‏مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة‏}‏ أي‏:‏ كان ما عدا المستثنى حلالاً لهم‏:‏ ‏{‏مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة‏}‏ مشتملة على تحريم ما حرمه عليهم لظلمهم، وفيه ردّ على اليهود لما أنكروا ما قصه الله سبحانه على رسوله صلى الله عليه وسلم من أن سبب ما حرمه الله عليهم هو ظلمهم، وبغيهم، كما في قوله‏:‏ ‏{‏فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات أُحِلَّتْ لَهُمْ‏}‏ الآية ‏[‏النساء‏:‏ 160‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 146‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ذلك جزيناهم بِبَغْيِهِمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 146‏]‏ وقالوا إنها محرّمة على من قبلهم من الأنبياء، يريدون بذلك تكذيب ما قصّه الله على نبينا صلى الله عليه وسلم في كتابه العزيز، ثم أمره الله سبحانه بأن يحاجهم بكتابهم، ويجعل بينه وبينهم حكماً ما أنزله الله عليهم لا ما أنزله عليه فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ حتى تعلموا صدق ما قصّه الله في القرآن من أنه لم يحرّم على بني إسرائيل شيء من قبل نزول التوراة إلا ما حرّمه يعقوب على نفسه‏.‏ وفي هذا من الإنصاف للخصوم ما لا يقادر قدره، ولا يبلغ مداه،

ثم قال‏:‏ ‏{‏فَمَنِ افترى عَلَى الله الكذب مِن بَعْدِ ذَلِكَ‏}‏ أي‏:‏ من بعد إحضار التوراة، وتلاوتها ‏{‏فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون‏}‏ أي‏:‏ المفرطون في الظلم المتبالغون فيه، فإنه لا أظلم ممن حوكم إلى كتابه، وما يعتقده شرعاً صحيحاً، ثم جادل من بعد ذلك مفترياً على الله الكذب،

ثم لما كان ما يفترونه من الكذب بعد قيام الحجة عليهم بكتابهم باطلاً مدفوعاً، وكان ما قصّه الله سبحانه في القرآن، وصدقته التوراة صحيحاً صادقاً، وكان ثبوت هذا الصدق بالبرهان الذي لا يستطيع الخصم دفعه، أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بأن ينادي بصدق الله بعد أن سجل عليهم الكذب، فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ صَدَقَ الله فاتبعوا مِلَّةَ إبراهيم‏}‏ أي‏:‏ ملة الإسلام التي أنا عليها، وقد تقدم بيان معنى الحنيف، وكأنه قال لهم إذا تبين لكم صدقي، وصدق ما جئت به، فادخلوا في ديني، فإن من جملة ما أنزله الله عليّ

‏{‏وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 85‏]‏‏.‏

وقد أخرج الترمذي، وحسنه، عن ابن عباس‏:‏ «أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ فأخبرنا ما حرّم إسرائيل على نفسه‏؟‏ قال ‏"‏ كان يسكن البدو، فاشتكى عرق النساء، فلم يجد شيئاً يلائمه إلا تحريم الإبل، وألبانها، فلذلك حرمها، ‏"‏ قالوا صدقت وذكر الحديث‏.‏ وأخرجه أيضاً أحمد، والنسائي‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، عن ابن عباس في الآية؛ قال‏:‏ العرق أجده عرق النساء، فكان يبيت له زق يعني صياح، فجعل لله عليه إن شفاه أن لا يأكل لحماً فيه عرق، فحرمته اليهود‏.‏ وأخرج البخاري في تاريخه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس من قوله ما أخرجه الترمذي سابقاً عنه مرفوعاً‏.‏ وأخرج ابن إسحاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق عكرمة، عن ابن عباس أنه كان يقول‏:‏ الذي حرّم إسرائيل على نفسه، زائدتا الكبد، والكليتان، والشحم إلا ما كان على الظهر‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عنه قال‏:‏ قالت اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم نزلت التوراة بتحريم الذي حرّم إسرائيل، فقال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ وكذبوا ليس في التوراة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏96- 97‏]‏

‏{‏إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ‏(‏96‏)‏ فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ‏(‏97‏)‏‏}‏

هذا شروع في بيان شيء آخر مما جادلت فيه اليهود بالباطل، وذلك أنهم قالوا‏:‏ إن بيت المقدس أفضل، وأعظم من الكعبة لكونه مهاجر الأنبياء، وفي الأرض المقدسة فردّ الله ذلك عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ‏}‏ الآية، فقوله‏:‏ ‏{‏وُضِعَ‏}‏ صفة لبيت، وخبر «إن» قوله‏:‏ ‏{‏لَلَّذِى بِبَكَّةَ مباركاً‏}‏ فنبه تعالى بكونه أول متعبد على أنه أفضل من غيره، وقد اختلف في الباني له في الابتداء، فقيل‏:‏ الملائكة، وقيل‏:‏ آدم، وقيل‏:‏ إبراهيم، ويجمع بين ذلك بأول من بناه الملائكة، ثم جدده آدم، ثم إبراهيم‏.‏ وبكة علم للبلد الحرام، وكذا مكة، وهما لغتان، وقيل‏:‏ إن بكة؛ اسم لموضع البيت، ومكة اسم للبلد الحرام؛ وقيل‏:‏ بكة للمسجد، ومكة للحرم كله؛ قيل‏:‏ سميت بكة لازدحام الناس في الطواف، يقال‏:‏ بك القوم‏:‏ ازدحموا‏.‏ وقيل‏:‏ البك‏:‏ دق العنق، سميت بذلك؛ لأنها كانت تدق أعناق الجبابرة‏.‏ وأما تسميتها بمكة، فقيل‏:‏ سميت بذلك لقلة ما بها؛ وقيل‏:‏ لأنها تمك المخ من العظم بما ينال ساكنها من المشقة، ومنه مككت العظم‏:‏ إذا أخرجت ما فيه، ومك الفصيل ضرع أمه، وامكته‏:‏ إذا امتصه؛ وقيل‏:‏ سميت بذلك؛ لأنها تمك من ظلم فيها، أي‏:‏ تهلكه‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏مُبَارَكاً‏}‏ حال من الضمير في ‏{‏وضع‏}‏ أو من متعلق الظرف؛ لأن التقدير للذي استقر ببكة مباركاً، والبركة‏:‏ كثرة الخير الحاصل لمن يستقر فيه، أو يقصده، أي‏:‏ الثواب المتضاعف‏.‏

والآيات البينات الواضحات‏:‏ منها الصفا، والمروة، ومنها أثر القدم في الصخرة الصماء، ومنها أن الغيث إذا كان بناحية الركن اليماني كان الخصب في اليمن، وإن كان بناحية الشامي كان الخصب بالشام، وإذا عمّ البيت كان الخصب في جميع البلدان، ومنها انحراف الطيور، عن أن تمر على هوائه في جميع الأزمان، ومنها هلاك من يقصده من الجبابرة، وغير ذلك‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مَّقَامِ إبراهيم‏}‏ بدل من آيات قاله محمد بن يزيد المبرد‏.‏ وقال في الكشاف‏:‏ إنه عطف بيان‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ إنه مبتدأ، وخبره محذوف، والتقدير منها مقام إبراهيم؛ وقيل‏:‏ هو خبر مبتدأ محذوف أي‏:‏ هي مقام إبراهيم، وقد استشكل صاحب الكشاف بيان الآيات، وهي‏:‏ جمع بالمقام، وهو‏:‏ فرد، وأجاب بأن المقام جعل، وحده بمنزلة آيات لقوّة شأنه، أو بأنه مشتمل على آيات، قال‏:‏ ويجوز أن يراد فيه آيات بينات مقام إبراهيم، وأمن من دخله؛ لأن الإثنين نوع من الجمع‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً‏}‏ جملة مستأنفة لبيان حكم من أحكام الحرم، وهو‏:‏ أن من دخله كان آمناً، وبه استدل من قال‏:‏ إن من لجأ إلى الحرم، وقد وجب عليه حدّ من الحدود، فإنه لا يقام عليه الحدّ حتى يخرج منه، وهو قول أبي حنيفة، ومن تابعه، وخالفه الجمهور، فقالوا‏:‏ تقام عليه الحدود في الحرم‏.‏

وقد قال جماعة‏:‏ إن الآية خبر في معنى الأمر، أي‏:‏ ومن دخله، فأمنوه كقوله‏:‏ ‏{‏فلا رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 197‏]‏ أي‏:‏ لا ترفثوا، ولا تفسقوا، ولا تجادلوا‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت‏}‏ اللام في قوله‏:‏ ‏{‏لِلَّهِ‏}‏ هي التي يقال لها‏:‏ لام الإيجاب، والإلزام، ثم زاد هذا المعنى تأكيداً حرف «على» فإنه من أوضح الدلالات على الوجوب عند العرب، كما إذا قال القائل لفلان عليّ كذا، فذكر الله سبحانه الحج بأبلغ ما يدل على الوجوب تأكيداً لحقه، وتعظيماً لحرمته، وهذا الخطاب شامل لجميع الناس لا يخرج عنه إلا من خصصه الدليل كالصبي، والعبد‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً‏}‏ في محل جرّ على أنه بدل بعض من الناس‏.‏ وبه قال أكثر النحويين‏.‏ وأجاز الكسائي أن يكون في موضع رفع بحج‏.‏ والتقدير‏:‏ أن يحج البيت من استطاع إليه سبيلاً، وقيل‏:‏ إن «من» حرف شرط، والجزاء محذوف، أي‏:‏ من استطاع إليه سبيلاً فعليه الحج‏.‏

وقد اختلف أهل العلم في الاستطاعة ماذا هي‏؟‏ فقيل الزاد، والراحلة، وإليه ذهب جماعة من الصحابة، وحكاه الترمذي، عن أكثر أهل العلم، وهو‏:‏ الحق‏.‏ قال مالك‏:‏ إن الرجل إذا وثق بقوّته لزمه الحج، وإن لم يكن له زاد، وراحلة إذا كان يقدر على التكسب، وبه قال عبد الله بن الزبير، والشعبي، وعكرمة‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ إن كان شاباً قوياً صحيحاً، وليس له مال فعليه أن يؤاجر نفسه حتى يقضي حجه، ومن جملة ما يدخل في الاستطاعة دخولاً أوليا أن تكون الطريق إلى الحج آمنة، بحيث يأمن الحاج على نفسه، وماله الذي لا يجد زاداً غيره، أما لو كانت غير آمنة، فلا استطاعة؛ لأن الله سبحانه يقول‏:‏ ‏{‏مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً‏}‏ وهذا الخائف على نفسه، أو ماله لم يستطع إليه سبيلاً بلا شك، ولا شبهة‏.‏ وقد اختلف أهل العلم إذا كان في الطريق من الظلمة من يأخذ بعض الأموال على وجه لا يجحف بزاد الحاج‏.‏ فقال الشافعي‏:‏ لا يعطى حبة، ويسقط عنه فرض الحج ووافقه جماعة، وخالفه آخرون‏.‏ والظاهر أن من تمكن من الزاد، والراحلة، وكانت الطريق آمنة بحيث يتمكن من مرورها، ولو بمصانعة بعض الظلمة بدفع شيء من المال يتمكن منه الحاج، ولا ينقص من زاده، ولا يجحف به، فالحج غير ساقط عنه بل واجب عليه؛ لأنه قد استطاع السبيل بدفع شيء من المال، ولكنه يكون هذا المال المدفوع في الطريق من جملة ما تتوقف عليه الاستطاعة، فلو وجد الرجل زاداً، وراحلة، ولم يجد ما يدفعه لمن يأخذ المكس في الطريق لم يجب عليه الحج؛ لأنه لم يستطع إليه سبيلاً، وهذا لا بد منه، ولا ينافي تفسير الاستطاعة بالزاد، والراحلة، فإنه قد تعذر المرور في طريق الحج لمن وجد الزاد، والراحلة إلا بذلك القدر الذي يأخذه المكاسون، ولعل وجه قول الشافعي‏:‏ إنه سقط الحج، أن أخذ هذا المكس منكر، فلا يجب على الحاج أن يدخل في منكر، وأنه بذلك غير مستطيع‏.‏

ومن جملة ما يدخل في الاستطاعة أن يكون الحاج صحيح البدن على وجه يمكنه الركوب، فلو كان زمِناً بحيث لا يقدر على المشي، ولا على الركوب فهذا، وإن وجد الزاد، والراحلة، فهو لم يستطع السبيل‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين‏}‏ قيل‏:‏ إنه عبر بلفظ الكفر عن ترك الحج؛ تأكيداً لوجوبه، وتشديداً على تاركه، وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ ومن كفر بفرض الحج، ولم يره واجباً، وقيل‏:‏ إن من ترك الحج، وهو قادر عليه، فهو كافر‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين‏}‏ من الدلالة على مقت تارك الحج مع الاستطاعة، وخذلانه، وبعده من الله سبحانه ما يتعاظمه سامعه، ويرجف له قلبه، فإن الله سبحانه إنما شرع لعباده هذه الشرائع لنفعهم، ومصلحتهم، وهو‏:‏ تعالى شأنه، وتقدس سلطانه غني لا تعود إليه طاعات عباده بأسرها بنفع‏.‏

وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن علي بن أبي طالب في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، قال‏:‏ كانت البيوت قبله، ولكنه كان أوّل بيت وضع لعبادة الله‏.‏ وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما، عن أبي ذر قال‏:‏ «قلت يا رسول الله‏:‏ أي مسجد وضع أوّل‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ المسجد الحرام، ‏"‏ قلت‏:‏ ثم أي‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ المسجد الأقصى، ‏"‏ قلت‏:‏ كم بينهما‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ أربعون سنة ‏"‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، والبيهقي في الشعب، عن ابن عمر، قال‏:‏ «خلق الله البيت قبل الأرض بألفي سنة، وكان إذ كان عرشه على الماء زَبْدةً بَيْضاءَ، وكانت الأرض تحته، كأنها حشفة فدحيت الأرض من تحته»‏.‏ وأخرج نحوه ابن المنذر، عن أبي هريرة‏.‏

وأخرج ابن المنذر، والأزرقي، عن ابن جريج قال‏:‏ بلغنا أن اليهود قالت بيت المقدس أعظم من الكعبة؛ لأنه مهاجر الأنبياء، ولأنه في الأرض المقدسة، فقال المسلمون‏:‏ بل الكعبة أعظم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت‏:‏ ‏{‏إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ‏}‏ الآية إلى قوله‏:‏ ‏{‏فِيهِ ءايات بينات مَّقَامُ إبراهيم‏}‏ وليس ذلك في بيت المقدس‏:‏ ‏{‏وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً‏}‏ وليس ذلك في بيت المقدس‏:‏ ‏{‏وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت‏}‏ وليس ذلك في بيت المقدس‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، عن عبد الله بن الزبير قال‏:‏ إنما سميت بكة؛ لأن الناس يجيئون إليها من كل جانب حجاجاً‏.‏ وروى سعيد بن منصور، وابن جرير، والبيهقي، عن مجاهد‏:‏ إنما سميت بكة؛ لأن الناس يتباكون فيها، أي‏:‏ يزدحمون‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، عن مقاتل بن حيان، في قوله‏:‏ ‏{‏مُبَارَكاً‏}‏ قال‏:‏ جعل فيه الخير، والبركة‏:‏ ‏{‏وَهُدىً للعالمين‏}‏ يعني‏:‏ بالهدى قبلتهم‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، من طريق العوفي، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏فِيهِ ءايات بينات‏}‏ فمنهن مقام إبراهيم، والمشعر‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن الحسن في قوله‏:‏ ‏{‏فِيهِ ءايات بينات‏}‏ قال‏:‏ مقام إبراهيم‏:‏ ‏{‏وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت‏}‏‏.‏ وأخرج الأزرقي، عن زيد بن أسلم نحوه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً‏}‏ قال‏:‏ كان هذا في الجاهلية، كان الرجل لو جرَّ كل جريرة على نفسه، ثم لجأ إلى الحرم لم يتناول، ولم يطلب، فأما في الإسلام، فإنه لا يمنع من حدود الله، من سرق فيه قطع، ومن زنى فيه أقيم عليه الحدّ، ومن قتل فيه قتل‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، والأزرقي، عن عمر بن الخطاب قال‏:‏ لو وجدت فيه قاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً‏}‏ قال‏:‏ من عاذ بالبيت أعاذه البيت، ولكن لا يؤوى، ولا يطعم، ولا يسقى، فإذا خرج أخذ بذنبه‏.‏ وقد روي عنه هذا المعنى من طرق‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عنه قال‏:‏ لو وجدت قاتل أبي في الحرم لم أعرض له‏.‏ وأخرج عبد بن حميد وابن جرير، عن ابن عمر قال‏:‏ لو وجدت قاتل أبي في الحرم ما هِجْتهُ‏.‏ وأخرج الشيخان، وغيرهما، عن أبي شريح العدوي قال‏:‏ قام النبي صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح فقال‏:‏ ‏"‏ إن مكة حرّمها الله، ولم يحرّمها الناس، فلا يحلّ لامريء يؤمن بالله، واليوم الآخر أن يسفك بها دماً، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقولوا‏:‏ إن الله قد أذن لرسوله، ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي ساعة من نهار، ثم عادت حرمتها اليوم، كحرمتها أمس ‏"‏

وأخرج الدارقطني، والحاكم وصححه، عن أنس‏:‏ «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله‏:‏ ‏{‏مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً‏}‏ فقيل‏:‏ ما السبيل‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ الزاد، والراحلة ‏"‏ وأخرج الشافعي، وعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والترمذي، وابن ماجه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن عدي، وابن مردويه، والبيهقي في سننه، عن ابن عمر مرفوعاً‏:‏ أنه قام رجل، فقال‏:‏ ما السبيل‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏ الزاد، والراحلة ‏"‏‏.‏ وأخرج الدارقطني، والبيهقي في سننهما من طريق الحسن، عن أمه، عن عائشة قالت‏:‏ «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما السبيل إلى الحج‏؟‏ قال‏:‏

‏"‏ الزاد، والراحلة ‏"‏ وأخرج الدارقطني في سننه، عن ابن مسعود مرفوعاً مثله‏.‏ وأخرج الدارقطني، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه مرفوعاً مثله‏.‏ وأخرج الدارقطني، عن جابر مرفوعاً مثله‏.‏ وقد روى هذا الحديث من طرق أقلّ أحواله أن يكون حسناً لغيره، فلا يضره ما وقع من الكلام على بعض طرقه، كما هو معروف‏.‏

وأخرج الدارقطني، عن علي مرفوعاً في الآية‏:‏ «أنه سئل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏"‏ تجد ظهر بعير ‏"‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، عن عمر بن الخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً‏}‏ قال‏:‏ الزاد، والراحلة، وأخرجا عن ابن عباس مثله‏.‏ وأخرجه عنه مرفوعاً ابن ماجه، والطبراني، وابن مردويه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي عنه قال‏:‏ السبيل أن يصح بدن العبد، ويكون له ثمن زاد، وراحلة من غير أن يجحف به‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، عنه قال‏:‏ ‏{‏سَبِيلاً‏}‏ من وجد إليه سعة، ولم يحل بينه، وبينه‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن عبد الله بن الزبير قال‏:‏ الاستطاعة‏:‏ القوّة‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم، عن النخعي قال‏:‏ إن المحرم للمرأة من السبيل الذي قال الله‏.‏ وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم النهي للمرأة أن تسافر بغير ذي محرم‏.‏ واختلفت الأحاديث في قدر المدة، ففي لفظ ثلاثة أيام، وفي لفظ يوم وليلة، وفي لفظ بريد‏.‏

وقد وردت أحاديث في تشديد الوعيد على من ملك زاداً، وراحلة، ولم يحج‏.‏ فأخرج الترمذي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب، عن علي بن أبي طالب قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من ملك زاداً، وراحلة تبلغه إلى بيت الله، ولم يحج بيت الله، فلا عليه بأن يموت يهودياً، أو نصرانياً ‏"‏ وذلك بأن الله يقول‏:‏ ‏{‏وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين‏}‏‏.‏ وفي إسناده هلال الخراساني أبو هاشم‏.‏ قال البخاري‏:‏ منكر الحديث‏.‏ وقيل‏:‏ مجهول‏.‏ وقال ابن عدي‏:‏ هذا الحديث ليس بمحفوظ وفي إسناده أيضاً الحارث الأعور، وفيه ضعف‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وأحمد في كتاب الإيمان، وأبو يعلى، والبيهقي، عن أبي أمامة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من مات، ولم يحج حجة الإسلام لم يمنعه مرض حابس، أو سلطان جائر، أو حاجة ظاهرة، فليمت على أيّ حال شاء يهودياً، أو نصرانياً ‏"‏ وأخرج ابن أبي شيبة، عن عبد الرحمن بن سابط مرفوعاً مرسلاً مثله‏.‏

وأخرج سعيد بن منصور‏.‏ قال السيوطي بسند صحيح، عن عمر بن الخطاب قال‏:‏ لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار، فلينظروا كل من كان له جدة، ولم يحج، فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين‏.‏ وأخرج الإسماعيلي عنه يقول‏:‏ ‏"‏ من أطاق الحج، ولم يحج، فسواء عليه يهودياً مات، أو نصرانياً ‏"‏ قال ابن كثير بعد أن ساق إسناده‏:‏ وهذا إسناد صحيح‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، عنه نحوه‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن ابن عمر‏:‏ «من مات، وهو موسر، ولم يحج جاء يوم القيامة، وبين عينيه مكتوب كافر»‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، عنه «من وجد إلى الحج سبيلاً سنة، ثم سنة، ثم سنة ثم مات، ولم يحج لم يصلّ عليه، ولا يدري مات يهودياً، أو نصرانياً»‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، عن عمر بن الخطاب، قال‏:‏ لو ترك الناس الحج لقاتلتهم عليه، كما نقاتلهم على الصلاة، والزكاة‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عن العالمين‏}‏ قال‏:‏ من زعم أنه ليس بفرض عليه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس في الآية قال‏:‏ من كفر بالحج، فلم يرجحه براً، ولا تركه مأثماً‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في سننه، عن عكرمة قال‏:‏ لما نزلت‏:‏ ‏{‏وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 85‏]‏ قالت اليهود‏:‏ فنحن مسلمون، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن الله فرض على المسلمين حج البيت، ‏"‏ فقالوا‏:‏ لم يكتب علينا، وأبوا أن يحجوا، قال الله‏:‏ ‏{‏وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين‏}‏»‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن عكرمة نحوه‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن الضحاك قال‏:‏ «لما نزلت آية الحج ‏{‏وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت‏}‏ الآية، جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الملل مشركي العرب، والنصارى، واليهود، والمجوس، والصابئين، فقال‏:‏ ‏"‏ إن الله فرض عليكم الحج، فحجوا البيت، ‏"‏ فلم يقبله إلا المسلمون، وكفرت به خمس ملل، قالوا‏:‏ لا نؤمن به، ولا نصلي إليه، ولا نستقبله، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين‏}‏» «وأخرج عبد بن حميد، والبيهقي في سننه، عن مجاهد نحوه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن أبي داود نفيع قال‏:‏ «قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت‏}‏ الآية، فقام رجل من هذيل فقال‏:‏ يا رسول الله من تركه كفر‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏ من تركه لا يخاف عقوبته، ومن حج لا يرجو ثوابه، فهو ذاك ‏"‏

وأخرج ابن جرير، عن عطاء بن أبي رباح في الآية قال‏:‏ من كفر بالبيت‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الشعب، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله‏:‏ ‏{‏وَمَن كَفَرَ‏}‏ قال‏:‏ «من كفر بالله، واليوم الآخر»‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد مثله من قوله‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن زيد أنه سئل عن ذلك، فقرأ‏:‏ ‏{‏إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏سَبِيلاً‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَن كَفَرَ‏}‏ بهذه الآيات‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن ابن مسعود في الآية قال‏:‏ ‏{‏وَمَن كَفَرَ‏}‏ فلم يؤمن به‏:‏ فهو الكافر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏98- 103‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ‏(‏98‏)‏ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏99‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ‏(‏100‏)‏ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏101‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏102‏)‏ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏103‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ ياأهل الكتاب‏}‏ خطاب لليهود، والنصارى، والاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏لِمَ تَكْفُرُونَ‏}‏ للإنكار، والتوبيخ‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والله شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ‏}‏ جملة حالية مؤكدة للتوبيخ، والإنكار، وهكذا المجيء بصيغة المبالغة في شهيد يفيد مزيد التشديد، والتهويل، والاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏لِمَ تَصُدُّونَ‏}‏ يفيد ما أفاده الاستفهام الأول‏.‏ وقرأ الحسن‏:‏ ‏{‏تَصُدُّونَ‏}‏ من أصد، وهما لغتان‏:‏ مثل صد اللحم، وأصد‏:‏ إذا تغير، وأنتن، وسبيل الله دينه الذي ارتضاه لعباده، وهو دين الإسلام، والعوج‏:‏ الميل، والزيغ، يقال عوج بالكسر إذا كان في الدين، والقول، والعمل، وبالفتح في الأجسام كالجدار، ونحوه، روي ذلك عن أبي عبيدة، وغيره، ومحل قوله‏:‏ ‏{‏تبغونها عوجاً‏}‏ النصب على الحال‏.‏ والمعنى‏:‏ تطلبون لها اعوجاجاً، وميلاً عن القصد، والاستقامة بإبهامكم على الناس بأنها كذلك تثقيفاً لتحريفكم، وتقويماً لدعاويكم الباطلة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنْتُمْ شُهَدَاء‏}‏ جملة حالية، أي‏:‏ كيف تطلبون ذلك بملة الإسلام، والحال أنكم تشهدون أنها دين الله الذي لا يقبل غيره، كما عرفتم ذلك من كتبكم المنزلة على أنبيائكم، قيل‏:‏ إن في التوراة أن دين الله الذي لا يقبل غيره الإسلام، وأن فيه نعت محمد صلى الله عليه وسلم؛ وقيل‏:‏ المراد‏:‏ ‏{‏وَأَنْتُمْ شُهَدَاء‏}‏ أي‏:‏ عقلاء، وقيل‏:‏ المعنى وأنتم شهداء بين أهل دينكم مقبولون عندهم، فكيف تأتون بالباطل الذي يخالف ما أنتم عليه بين أهل دينكم‏؟‏ ثم توعدهم سبحانه بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ ثم خاطب سبحانه المؤمنين محذراً لهم عن طاعة اليهود، والنصارى مبيناً لهم أن تلك الطاعة تفضي إلى أن يردونهم بعد إيمانهم كافرين، وسيأتي بيان سبب نزول الآية،

والاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ‏}‏ للإنكار، أي‏:‏ من أين يأتيكم ذلك، ولديكم ما يمنع منه ويقطع أثره، وهو‏:‏ تلاوة آيات الله عليكم، وكون رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم‏؟‏ ومحل قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنتُمْ‏}‏ وما بعده النصب على الحال‏.‏ ثم أرشدهم إلى الاعتصام بالله ليحصل لهم بذلك الهداية إلى الصراط المستقيم الذي‏:‏ هو الإسلام، وفي وصف الصراط بالاستقامة ردّ على ما ادَّعوه من العوج‏.‏ قال الزجاج‏:‏ يجوز أن يكون هذا الخطاب لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فيهم، وهم يشاهدونه، ويجوز أن يكون هذا الخطاب لجميع الأمة؛ لأن آثاره، وعلامته، والقرآن الذي أوتيه فينا، فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا، وإن لم نشاهده‏.‏ انتهى‏.‏ ومعنى الاعتصام بالله التمسك بدينه، وطاعته، وقيل‏:‏ بالقرآن، يقال‏:‏ اعتصم به، واستعصم، وتمسك، واستمسك‏:‏ إذا امتنع به من غيره، وعصمه الطعام‏:‏ منع الجوع منه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ‏}‏ أي‏:‏ التقوى التي تحق له، وهي‏:‏ أن لا يترك العبد شيئاً مما يلزمه فعله، ولا يفعل شيئاً مما يلزمه تركه، ويبذل في ذلك جهده، ومستطاعه‏.‏

قال القرطبي‏:‏ ذكر المفسرون أنها لما نزلت هذه الآية قالوا‏:‏ يا رسول الله من يقوى على هذا‏؟‏ وشق عليهم ذلك، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله مَا استطعتم‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 16‏]‏ فنسخت هذه الآية‏.‏ روي ذلك عن قتادة، والربيع، وابن زيد‏.‏ قال مقاتل‏:‏ وليس في آل عمران من المنسوخ شيء إلا هذا‏.‏ وقيل‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{‏اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ‏}‏ مبين بقوله‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله مَا استطعتم‏}‏ والمعنى‏:‏ اتقوا الله حق تقاته ما استطعتم‏.‏ قال‏:‏ وهذا أصوب؛ لأن النسخ إنما يكون عند عدم الجمع، والجمع ممكن، فهو أولى‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا تكونن على حال سوى حال الإسلام، فالاستثناء مفرغ، ومحل الجملة‏:‏ أعني‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ‏}‏ النصب على الحال، وقد تقدم في البقرة تفسير مثل هذه الآية‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً‏}‏ الحبل لفظ مشترك، وأصله في اللغة السبب الذي يتوصل به إلى البغية، وهو‏:‏ إما تمثيل، أو استعارة‏.‏ أمرهم سبحانه بأن يجتمعوا على التمسك بدين الإسلام، أو بالقرآن، ونهاهم عن التفرق الناشيء عن الاختلاف في الدين، ثم أمرهم بأن يذكروا نعمة الله عليهم، وبين لهم من هذه النعمة ما يناسب المقام، وهو أنهم كانوا أعداء مختلفين يقتل بعضهم بعضاً، وينهب بعضهم بعضاً، فأصبحوا بسبب هذه النعمة إخواناً وكانوا على شفا حفرة من النار بما كانوا عليه من الكفر، فأنقذهم الله من هذه الحفرة بالإسلام‏.‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏أصبحتم‏}‏ صرتم، وليس المراد به معناه الأصلي‏:‏ وهو الدخول في وقت الصباح، وشفا كل شيء‏:‏ حرفه، وكذلك شفيره، وأشفى على الشيء‏:‏ أشرف عليه، وهو تمثيل للحالة التي كانوا عليها في الجاهلية‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قَالَ كذلك‏}‏ إشارة إلى مصدر الفعل الذي بعده أي‏:‏ مثل ذلك البيان البليغ يبين الله لكم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ‏}‏ إرشاد لهم إلى الثبات على الهدى، والازدياد منه‏.‏

وقد أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن زيد بن أسلم قال‏:‏ مرّ شاس بن قيس- وكان شيخاً قد عسى في الجاهلية، عظيم الكفر، شديد الطعن على المسلمين، شديد الحسد لهم- على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس، والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من ألفتهم، وجماعتهم، وصلاح ذات بينهم على الإسلام‏.‏ بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال‏:‏ قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتى شاباً معه من يهود، فقال‏:‏ اعمد إليهم، فاجلس معهم، ثم ذكرهم يوم بعاث، وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا يتقاولون فيه من الأشعار- وكان يوم بعاث يوماً اقتتلت فيه الأوس، والخزرج وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج،- ففعل فتكلم القوم عند ذلك، وتنازعوا، وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب، أوس بن قيظي أحد بني حارثة من الأوس، وجبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج، فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه‏:‏ إن شئتم، والله رددناها الآن جذعة، وغضب الفريقان جميعاً، وقالوا‏:‏ قد فعلنا، السلاح السلاح موعدكم الظاهرة- والظاهرة‏:‏ الحرة- فخرجوا إليها، وانضمت الأوس بعضها إلى بعض، والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم، فقال‏:‏ «يا معشر المسلمين الله الله أبدعوى الجاهلية، وأنا بين أظهركم‏؟‏ بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف به بينكم، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفاراً‏؟‏» فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم لهم، فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا، وعانق الرجال بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس، وأنزل الله في شأن شاس بن قيس، وما صنع ‏{‏قُلْ ياأهل أَهْلِ الكتاب لَمَن تَكْفُرُونَ بئيات الله والله شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ وأنزل في أوس بن قيظي، وجبار بن صخر، ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا ‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ وقد رويت هذه القصة مختصرة، ومطولة من طرق‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السدي في قوله‏:‏ ‏{‏لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ قال‏:‏ كانوا إذا سألهم أحد تجدون محمداً‏؟‏ قالوا‏:‏ لا، قال‏:‏ فصدوا الناس عنه، وبغوا محمداً عوجاً هلاكاً‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة‏:‏ لم تصدون عن الإسلام، وعن نبي الله من آمن بالله، وأنتم شهداء فيما تقرءون من كتاب الله أن محمداً رسول الله، وأن الإسلام دين الله الذي لا يقبل غيره، ولا يجزي إلا به يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة، والإنجيل‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن جريج في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يَعْتَصِم بالله‏}‏ قال‏:‏ يؤمن به‏.‏ وأخرجوا عن أبي العالية قال‏:‏ الاعتصام‏:‏ الثقة بالله‏.‏

وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه، عن ابن مسعود في قوله‏:‏ ‏{‏اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ‏}‏ قال‏:‏ أن يطاع، فلا يعصى، ويذكر، فلا ينسى، ويشكر، فلا يكفر‏.‏

وقد رواه الحاكم وصححه، وابن مردويه من وجه آخر عنه مرفوعاً بدون قوله‏:‏ ويشكر، فلا يكفر‏.‏ وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس قال‏:‏ حقّ تقاته أن يطاع، فلا يعصى، فلن تستطيعوا، فأنزل الله بعد ذلك‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله مَا استطعتم‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 16‏]‏ وأخرج عبد بن حميد، عنه نحوه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير، نحوه‏.‏ وأخرج ابن مردويه، عن ابن مسعود نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏حَقَّ تُقَاتِهِ‏}‏ قال‏:‏ لم تنسخ، ولكن حق تقاته أن يجاهدوا في الله حق جهاده، ولا يأخذهم في الله لومة لائم، ويقوموا لله بالقسط، ولو على أنفسهم، وآبائهم، وأبنائهم‏.‏

وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، قال السيوطي بسند صحيح عن ابن مسعود في قوله‏:‏ ‏{‏واعتصموا بِحَبْلِ الله‏}‏ قال‏:‏ حبل الله القرآن‏.‏ وقد وردت أحاديث أن كتاب الله هو حبل الله الممدود‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية قال‏:‏ ‏{‏واعتصموا بحبل الله‏}‏ بالإخلاص لله وحده‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن قال‏:‏ بطاعته‏.‏ وأخرج أيضاً، عن قتادة قال‏:‏ بعهده، وأمره‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن زيد قال‏:‏ بالإسلام‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن جريج في قوله‏:‏ ‏{‏إِذْ كُنتُم أَعْدَاء‏}‏ قال‏:‏ ما كان بين الأوس، والخزرج في شأن عائشة‏.‏ وأخرج ابن إسحاق قال‏:‏ كانت الحرب بين الأوس، والخزرج عشرين ومائة سنة، حتى قام الإسلام، فأطفأ الله ذلك، وألف بينهم‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السدي في قوله‏:‏ ‏{‏وَكُنتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ النار‏}‏ يقول‏:‏ كنتم على طرف النار، من مات منكم، وقع في النار، فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم، واستنقذكم به من تلك الحفرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏104- 109‏]‏

‏{‏وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏104‏)‏ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏105‏)‏ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ‏(‏106‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏107‏)‏ تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ ‏(‏108‏)‏ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏109‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلْتَكُن‏}‏ قرأه الجمهور بإسكان اللام، وقرئ بكسر اللام على الأصل، و«من» في قوله‏:‏ ‏{‏مّنكُمْ‏}‏ للتبعيض، وقيل‏:‏ لبيان الجنس‏.‏ ورجح الأوّل بأن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر من فروض الكفايات يختص بأهل العلم الذين يعرفون كون ما يأمرون به معروفاً، وينهون عنه منكراً‏.‏ قال القرطبي‏:‏ الأوّل أصح، فإنه يدل على أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر فرض على الكفاية، وقد عينهم الله سبحانه بقوله‏:‏ ‏{‏الذين إِنْ مكناهم فِى الارض‏}‏ الآية ‏[‏الحج‏:‏ 41‏]‏‏.‏ وقرأ ابن الزبير‏:‏ «ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون بالله على ما أصابهم» قال أبو بكر بن الأنباري‏:‏ وهذه الزيادة تفسير من ابن الزبير، وكلام من كلامه غلط فيه بعض الناقلين، فألحقه بألفاظ القرآن‏.‏ وقد روى أن عثمان قرأها كذلك، ولكن لم يكتبها في مصحفه، فدل على أنها ليست بقرآن‏.‏ وفي الآية دليل على وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ووجوبه ثابت بالكتاب، والسنة، وهو من أعظم واجبات الشريعة المطهرة، وأصل عظيم من أصولها، وركن مشيد من أركانها، وبه يكمل نظامها ويرتفع سنامها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر‏}‏ من باب عطف الخاص على العام، إظهاراً لشرفهما، وأنهما الفردان الكاملان من الخير الذي أمر الله عباده بالدعاء إليه، كما قيل في عطف جبريل وميكائيل على الملائكة، وحذف متعلق الأفعال الثلاثة، أي‏:‏ يدعون، ويأمرون، وينهون لقصد التعميم، أي‏:‏ كل من وقع منه سبب يقتضي ذلك، والإشارة في قوله‏:‏ ‏{‏وَأُوْلئِكَ‏}‏ ترجع إلى الأمة باعتبار اتصافها بما ذكر بعدها ‏{‏هُمُ المفلحون‏}‏ أي‏:‏ المختصون بالفلاح، وتعريف المفلحين للعهد، أو للحقيقة التي يعرفها كل أحد‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ‏}‏ هم‏:‏ اليهود والنصارى عند جمهور المفسرين، وقيل‏:‏ هم المبتدعة من هذه الأمة، وقيل‏:‏ الحرورية، والظاهر الأول‏.‏ والبينات الآيات الواضحة المبينة للحق الموجبة لعدم الاختلاف‏.‏ قيل‏:‏ وهذا النهي عن التفرق، والاختلاف يختص بالمسائل الأصولية، وأما المسائل الفروعية الاجتهادية، فالاختلاف فيها جائز، وما زال الصحابة، فمن بعدهم من التابعين، وتابعيهم مختلفين في أحكام الحوادث، وفيه نظر، فإنه ما زال في تلك العصور المنكر للاختلاف موجوداً وتخصيص بعض مسائل الدين بجواز الاختلاف فيها دون البعض الآخر ليس بصواب، فالمسائل الشرعية متساوية الاقدام في انتسابها إلى الشرع‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ‏}‏ منتصب بفعل مضمر أي‏:‏ اذكر، وقيل‏:‏ بما يدل عليه قوله‏:‏ ‏{‏لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ فإن تقديره استقر لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه، أي‏:‏ يوم القيامة حين يبعثون من قبورهم تكون وجوه المؤمنين مبيضة، ووجوه الكافرين مسودة‏.‏ ويقال إن ذلك عند قراءة الكتاب إذا قرأ المؤمن كتابه رأى حسناته، فاستبشر وابيض وجهه، وإذا قرأ الكافر كتابه رأى سيئاته، فحزن واسودّ وجهه، والتنكير في وجوه للتكثير، أي‏:‏ وجوه كثيرة‏.‏

وقرأ يحيى بن وثاب ‏"‏ تبيض ‏"‏، و‏"‏ تسود ‏"‏ بكسر التاءين‏.‏ وقرأ الزهري تبياض، وتسواد‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏أَكْفَرْتُمْ‏}‏ أي‏:‏ فيقال لهم‏:‏ أكفرتم، والهمزة للتوبيخ، والتعجيب من حالهم، وهذا تفصيل لأحوال الفريقين بعد الإجمال، وقدم بيان حال الكافرين لكون المقام مقام تحذير وترهيب، قيل‏:‏ هم أهل الكتاب، وقيل‏:‏ المرتدون، وقيل‏:‏ المنافقون، وقيل‏:‏ المبتدعون‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَفِى رَحْمَةِ الله‏}‏ أي‏:‏ في جنته ودار كرامته، عبر عن ذلك بالرحمة إشارة إلى أن العمل لا يستقل بدخول صاحبه الجنة، بل لا بد من الرحمة، ومنه حديث‏:‏ ‏"‏ لن يدخل أحد الجنة بعمله ‏"‏ وهو في الصحيح‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏هُمْ فِيهَا خالدون‏}‏ جملة استئنافية جواب سؤال مقدر‏.‏ وتلك إشارة إلى ما تقدم من تعذيب الكافرين، وتنعيم المؤمنين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق‏}‏ جملة حالية، وبالحق متعلق بمحذوف، أي‏:‏ متلبسة بالحق، وهو العدل‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً للعالمين‏}‏ جملة تذييلية مقررة لمضمون ما قبلها، وفي توجه النفي إلى الإرادة الواقعة على النكرة دليل على أنه سبحانه لا يريد فرداً من أفراد الظلم الواقعة على فرد من أفراد العالم‏.‏ والمراد بما في السموات، وما في الأرض مخلوقاته سبحانه، أي‏:‏ له ذلك يتصرف فيه كيف يشاء، وعلى ما يريد، وعبر ب ‏"‏ ما ‏"‏ تغليباً لغير العقلاء على العقلاء لكثرتهم، أو لتنزيل العقلاء منزلة غيرهم‏.‏ قال المهدوي‏:‏ وجه اتصال هذا بما قبله أنه لما ذكر أحوال المؤمنين، والكافرين، وأنه لا يريد ظلماً للعالمين، وصله بذكر اتساع قدرته، وغناه عن الظلم لكون ما في السموات، وما في الأرض في قبضته، وقيل‏:‏ هو ابتداء كلام يتضمن البيان لعباده بأن جميع ما في السموات، وما في الأرض له حتى يسألوه، ويعبدوه، ولا يعبدوا غيره‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِلَى الله تُرْجَعُ الامور‏}‏ أي‏:‏ لا إلى غيره، لا شركة، ولا استقلالاً‏.‏

وقد أخرج ابن مردويه، عن أبي جعفر الباقر قال‏:‏ «قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏ الخير اتباع القرآن وسنتي ‏"‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي العالية قال‏:‏ كل آية ذكرها الله في القرآن في الأمر بالمعروف، فهو الإسلام، والنهي عن المنكر، فهو عبادة الأوثان، والشيطان‏.‏ انتهى‏.‏ وهو تخصيص بغير مخصص، فليس في لغة العرب، ولا في عرف الشرع ما يدل على ذلك‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن مقاتل بن حيان قال‏:‏ ‏{‏يَدْعُونَ إِلَى الخير‏}‏ أي‏:‏ الإسلام‏:‏ ‏{‏وَيَأْمُرُونَ بالمعروف‏}‏ بطاعة ربهم ‏{‏وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر‏}‏ عن معصية ربهم‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن الضحاك في الآية قال‏:‏ هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة، وهم‏:‏ الرواة‏.‏

انتهى‏.‏ ولا أدري ما وجه هذا التخصيص، فالخطاب في هذه الآية، كالخطاب بسائر الأمور التي شرعها الله لعباده، وكلفهم بها‏.‏ انتهى‏.‏

وأخرج أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم وصححه، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ‏"‏ وأخرج أحمد، وأبو داود، والحاكم، عن معاوية، مرفوعاً نحوه، وزاد‏:‏ ‏"‏ كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة ‏"‏ وأخرج الحاكم، عن عبد الله بن عمرو، مرفوعاً نحوه أيضاً، وزاد‏:‏ ‏"‏ كلها في النار إلا ملة واحدة، ‏"‏ فقيل له‏:‏ ما الواحدة‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ ما أنا عليه اليوم، وأصحابي ‏"‏ وأخرج ابن ماجه عن عوف بن مالك، مرفوعاً نحوه، وفيه‏:‏ «فواحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار، قيل‏:‏ يا رسول الله من هم‏؟‏ قال‏:‏ الجماعة» وأخرجه أحمد من حديث أنس، وفيه‏:‏ «قيل يا رسول الله من تلك الفرقة‏؟‏ قال‏:‏ الجماعة»‏.‏ وقد وردت آيات، وأحاديث كثيرة في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وفي الأمر بالكون في الجماعة، والنهي عن الفرقة‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، والخطيب، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ‏}‏ قال‏:‏ تبيض وجوه أهل السنة، والجماعة، وتسود وجوه أهل البدع، والضلالة‏.‏ وأخرجه الخطيب، والديلمي، عن ابن عمر مرفوعاً وأخرجه أيضاً مرفوعاً أبو نصر السَّجْزي في الإبانة عن أبي سعيد‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن أبي بن كعب في الآية قال‏:‏ صاروا فرقتين يوم القيامة، يقال لمن اسود وجهه أكفرتم بعد إيمانكم‏؟‏ فهو الإيمان الذي كان في صلب آدم حيث كانوا أمة واحدة، وأما الذين ابيضت وجوههم فهم الذين استقاموا على إيمانهم، وأخلصوا له الدين فبيض الله وجوههم، وأدخلهم في رضوانه، وجنته، وقد روى غير ذلك‏.‏